"سايكس- بيكو".. التاريخ يعيد نفسه
(في ذكرى توقيعها: 13 رجب 1334هـ)
مصطفى عاشور
الشريف حسين
واجهت بريطانيا موقفًا عصيبًا في المنطقة العربية منذ بداية عام (1334هـ=1915م) أثناءالحرب العالمية الأولى ، بعد أن فشلت حملتها العسكرية في العراق، وزاد ضغط القوات التركية على منطقة قناة السويس، وكذلك فشلت الحملة البريطانية ضد منطقة المضايق التركية؛ هذا الأمر جعل تعاون العرب مع القوات البريطانية أمرًا حيويًا للغاية؛ لذا عملت بريطانيا على استمالة الشريف حسين (حاكم الحجاز) إليها، وبدأت بين الجانبين مكاتبات ومراسلات استمرت (18) شهرًا، عُرفت باسم مراسلات "الحسين ـ مكماهون"، كانت بريطانيا تهدف من ورائها إلى دفع العرب إلى الثورة على الأتراك، أما الحسين فكان يهدف إلى إقامة دولة عربية تشمل العراق والشام والحجاز يتولى هو حكمها.
وكان تضارب مصالح الدول الأوروبية الحليفة في المنطقة العربية سببا قويًا في إيجاد الشكوك وعدم الثقة بين هؤلاء الحلفاء، وهو ما يؤثر سلبًا على موقفهم في الحرب، فروسيا تطمع في إدخال القدس وفلسطين ضمن نفوذها؛ نظرًا لوجود رجال الدين والكنائس الأرثوذكسية بها، بينما فرنسا تسعى نحو تثبيت نفوذها في منطقة بلاد الشام خاصة سوريا، وكان ذلك باعثًا لتخوف الحكومة البريطانية؛ إذ إن الوجود الفرنسي والروسي على هذا النحو يحرمها من خليج (عكا ـ حيفا) المنفذ الرئيسي للعراق على البحر المتوسط، كما أن بريطانيا لن ترضى أن ترى فرنسا أو روسيا على مقربة من قناة السويس؛ لأن ذلك يهدد طرق مواصلاتها مع الهند.
أما فرنسا فقد جاءت ظروف الحرب العالمية الأولى لتزيد مخاوفها من السياسة البريطانية؛ ذلك أنه بعد فشل حملة "الدردنيل" رأى القائد الإنجليزي "كتشنر" أنه لكي يستطيع الحلفاء إرجاع جزيرة غالبيولي، فإنه لا بد من إنزال (100) ألف جندي في ميناء الإسكندرونة، ثم تبدأ قوات الحلفاء التغلغل من هناك نحو الأراضي التركية؛ لأن ذلك يضمن قطع طريق المواصلات التركية من وسطها، فيحدث ارتباك في عمليات الإمداد والتموين للجيش التركي الذي سيضطر للتسليم بعد محاصرته، إلا أن فرنسا نظرًا لعجزها عن تنظيم مثل هذه الحملة الكبيرة رفضت الموافقة على هذه العملية التي سيكون عمادها الجيش والأسطول البريطانيَّين؛ لأن ذلك سيعرض المصالح الفرنسية في سوريا للخطر، إلا أن احتلال الجيش البريطاني لسوريا سيعمل على تقليل النفوذ بها، ويدفع السوريين إلى التحالف مع الإنجليز ظنًا منهم أن نجم فرنسا قد أفل.
والمعروف أن فرنسا لها أطماع قديمة في سوريا، منذ عام (1277هـ = 1860م) حيث عملت على التغلغل المالي والثقافي في هذه المنطقة، وكانت مدارسها في لبنان وحده لا تقل عن (300) مدرسة فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، وجدت فرنسا فيها فرصة لإقامة إمبراطورية فرنسية في آسيا تكون قاعدتها بلاد الشام.
وأمام هذا التعارض في المصالح لم تجد هذه الدول الاستعمارية أمامها من سبيل إلا التباحث فيما بينها، وتحديد مناطق نفوذ كل دولة حتى تزول أسباب الشكوك والخلافات؛ لتسير المعارك الحربية على الوجه الذي ترغب فيه هذه الدول.
تركة "الرجل المريض"
وبينما العرب يسعون بكل قوتهم للحصول على اعتراف بحقهم في تأسيس دولة عربية، كانت تُجرى –سرًا- مفاوضات بين دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا) حول اقتسام الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية، ومما يلفت النظر أن هذه الدول كانت تنتقد ألمانيا صباح مساء لخرقها حرمة المعاهدات والعقود الدولية، وتعلن أنها لن تلقي السلاح حتى تعيد ألمانيا إلى رشدها، وتحملها على احترام المواثيق الدولية.
وفي (جمادى الآخرة 1333هـ= إبريل 1915م) تم التوقيع على اتفاق سري بين بريطانيا وفرنسا وروسيا نصّ على حق روسيا في الاستيلاء على المضايق التركية والمناطق المجاورة لها، وهي بحرا مرمرة والدرنديل، وجزء من شاطئ آسيا الصغرى، مقابل أن تصبح القسطنطينية مدينة حرة، وضمان حرية الملاحة في منطقة المضايق، وأن تعترف روسيا بحقوق بريطانيا وفرنسا الخاصة في أقاليم تركيا الآسيوية، على أن تُحدّد هذه الحقوق فيما بينهما بمقتضى اتفاق خاص، كذلك أن تخضع الأماكن المقدسة وشبه الجزيرة العربية لحكم إسلامي مستقل، وأن يُضمّ جزء من إيران إلى منطقة النفوذ البريطانية.
وبينما كانت المفاوضات تجرى على هذا المنوال بين العواصم الثلاث، تم توقيع اتفاق آخر سري ضم هذه الدول بالإضافة إلى إيطاليا، وكان الهدف منه إغراء إيطاليا على الدخول في الحرب إلى جانب دول الوفاق.
معاهدة سايكس ـ بيكو
مارك سايكس
(في المحرم 1334هـ= نوفمبر 1915م) عينت الحكومة الفرنسية المسيو "جورج بيكو" قنصلها العام السابق في بيروت مندوبًا ساميًا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، ومفاوضة الحكومة البريطانية في مستقبل البلاد العربية، ولم يلبث أن سافر إلى القاهرة، واجتمع بالسير "مارك سايكس" المندوب السامي البريطاني لشئون الشرق الأدنى، بإشراف مندوب روسيا، أسفرت عن اتفاقية عُرفت باسم "اتفاقية القاهرة السرية"، ثم انتقلوا إلى مدينة بطرسبرغ الروسية، وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاقية ثلاثية لتحديد مناطق نفوذ كل دولة على النحو التالي:
استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أطنة.
استيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين.
استيلاء روسيا على الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان. واعترفت المعاهدة كذلك بحق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين.
المنطقة المحصورة بين الأقاليم التي تحصل عليها فرنسا، وتلك التي تحصل عليها بريطانيا تكون اتحاد دول عربية أو دول عربية موحدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تقسم إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ويشمل النفوذ الفرنسي شرق سوريا وولاية الموصل، بينما النفوذ البريطاني يمتد إلى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد وحتى الحدود الإيرانية.
يخضع الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية.
يصبح ميناء الإسكندرونة حرًا.
وهكذا تم تقسيم المنطقة العربية بين الدول الاستعمارية الكبرى، بمقتضى هذه الاتفاقية التي وصفها بعض المؤرخين الأوروبيين بأنها "ليست صورة للجشع فحسب، بل صورة مرعبة للمخادعة"؛ إذ عملت على تفتيت رقعة المنطقة العربية وتقسيمها، كما أنها حوت على متناقضات بين مختلف المعاهدات السرية التي أُبرمت في ذلك الوقت، فمثلا اتفاق "الحسين – مكماهون" الذي تعهدت بريطانيا فيه بجعل فلسطين جزءًا من الدول العربية أهمل وأغفل، وأصبحت فلسطين بمقتضى "سايكس – بيكو" تحت إدارة دولية، وإمعانًا في التناقض وعدت بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهذا يؤكد أن الحكومة البريطانية لم تكن جادة في التقيد بهذه الوعود، فهي لم تقدم عليها إلا كجزء من مجهودها الحربي ضد الدولة العثمانية، ولكن هدفها الحقيقي هو فرض سيطرتها التامة على المنطقة.
ومن المتناقضات الأخرى أن الاعتراف بدولة عربية مستقلة يتعارض مع السيطرة البريطانية والفرنسية؛ إذ كان سكان سوريا والعراق أكثر تطورًا من المناطق الداخلية التي ستقام فيها الدولة العربية، وهو ما كانت تدركه فرنسا؛ إذ إن استقلال هذه الدولة سيحدث تأثيرًا عميقًا في المناطق الساحلية، ويثير عددًا من المشاكل في إدارتها، كما أنه من الطبيعي أن تطالب حكومة الداخل بالمنطقة الساحلية، خاصة أن جميع سكانها من العرب، ومن جهة ثانية فإن سكان الساحل سيعمدون إلى المطالبة بتأسيس حكومة مستقلة ويطالبون بالاستقلال، وكان ذلك وراء محاولات فرنسا للتخلص من هذه الاتفاقية.
بعيدًا عن حسين
والمعروف أن اتفاقية "سايكس - بيكو" تمت في سرية تامة وبمعزل عن الشريف حسين الذي لم يكن يعلم عنها شيئًا، رغم أن سايكس وبيكو اجتمعا بالشريف حسين بعدها بأيام وطلبا منه ضرورة مساعدة العرب للحلفاء في الحرب. ولم يعلم الشريف بالاتفاقية إلا بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا سنة (1336هـ= 1917م)، وإعلان البلاشفة عن المعاهدات السرية التي وقّعتها روسيا القيصرية، ومن بينها اتفاقية "سايكس ـ بيكو"، ولم يصدق الشريف حسين هذه الاتفاقية، وسارع بتقديم احتجاج إلى السلطات البريطانية، لكنها طمأنته بأنها ملتزمة بالعهود التي قطعتها معه، فمضى في تأييدها ومساندتها واستمر في ثورته ضد الأتراك.
وقد عملت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى على التحرر تدريجيًا من التعهدات والاتفاقيات التي قطعتها على نفسها أثناء الحرب، ومنها اتفاقية "سايكس ـ بيكو"، فأبرمت مع فرنسا في (ربيع أول 1337هـ= ديسمبر 1918م) اتفاقًا لتعديلها بما يتفق والأمر الواقع في المنطقة، وبمقتضى هذا الاتفاق دخلت منطقة الموصل في دائرة النفوذ البريطاني في مقابل حصول فرنسا على نصيب في الثروة البترولية في هذه المنطقة.