ونحن نعيش أفراح الانتصار الكروي الكبير, الذي يؤكد أن الفضل فيه يعود بعد الله عز وجل إلي روح الوطنية والانتماء, يجدر أن نتذكر بكل الحب والاعتزاز ذكري رجل يدين له كل المصريين في هذه الروح فهو أبو الوطنية المصرية وباعثها في العصر الحديث, وصاحب الإسهام الرئيسي في تفعيل نهضة مصرية حقيقية ازدهرت خلال الربع الثاني من القرن العشرين, ثم أخذت دفعة جديدة بأبعاد أخري من خلال ثورة يوليو خلال فترة الخمسينيات, قبل أن تبدأ في الهبوط في الستينيات ثم تضمحل وتتلاشي بعد النكسة, لقد وافتنا ذكري مئوية مصطفي كامل يوم الانتصار الكروي, يوم هتف الجميع بلادي بلادي, يوم العاشر من فبراير, فغطت الفرحة علي الذكري, وما كان لها أن تفعل.
هذا حديث عن المستقبل أكثر منه بحث في الماضي, والسؤال عمن بني مصر الحديثة هو سؤال مهم من وجهة نظري, لأن إجابته ستمثل مقاربة من النموذج المطلوب لاستعادة النهضة مرة أخري.
من هذه الزاوية, البحث عن بناء الإنسان المصري, وهو عين ما نحتاجه الآن, ومع استجماع خيوط النهضة الفكرية والاقتصادية, وكذلك السياسية المتمثلة في نمو الوعي القومي وقيام حركة وطنية منظمة وجدت أن كل خيوط هذه النهضة تخرج من مشكاة واحدة, وتبدأ أطرافها من نقطة واحدة. إنه فتي مصر الذهبي مصطفي كامل.
لم يكن هذا الزعيم أبو الوطنية المصرية فحسب, بل ممن ساهموا في بناء مصر الحديثة, وإن لم يطل به العمر ليحصد ما زرع, ولعل هذا هو ما يحجب تلك الحقيقة عن الأنظار, لقد ظهر هذا الشهاب في سماء مصر بعد أن ادلهم الليل عليها وسكنت للمحتل سكونا لم تشهده في تاريخها, فنحت في الصخر في أوضاع ميئوس منها, منطلقا في الداخل والخارج, داعيا إلي قضية بلاده, وأهم من ذلك معيدا الحياة إلي الانسان المصري, فأيقظ فيه روح الانتماء والوطنية, وهذه هي نقطة البداية في أي نهضة, وأنشأ الرجل الحزب الوطني الذي قاد الدعوة لاستقلال البلاد, آخذا في الاعتبار ارتباط مصر ببعدها الإسلامي, فعادت الحياة للشعب لأول مرة منذ أن قتلها محمد علي قبل مائة عام.
ومع إيقاظ روح الوطنية والانتماء بعد طول موات, انطلق عبر جريدة اللواء يدير محركات النهضة والبناء في مختلف المجالات, ولم يكن له إلا أن أحيا الأمة بعد طول رقادها لكفاه هذا بأن يسجل اسمه في الخالدين, ذلك أن أثره في المجال السياسي فقط يكافئ أثر( جان دارك) في فرنسا, وسلاحه هو الكلمة والبيان, غير أن السياسة وجهوده فيها كانت مجرد جزء من مجمل كفاح الرجل, الذي لايعرف معظمنا عنه إلا كلماته الخالدة في عشق مصر, التي ارتسمت في الوجدان وصارت أنشودة البلاد, لكنها في الوقت نفسه غطت علي الجوانب الأخري في كفاحه, لقد كان منظومة نهضوية شاملة.
ويكفينا أنه كتب عام1905 كتابا اسماه( بلاد الشمس المشرقة) عن التجربة اليابانية, هكذا استشرف مبكرا التجربة التي تحتاجها بلاده ويضعها أمام أبناء بلده, فاختياره للتجربة اليابانية التي أحرزت التقدم دون أن تتنكر لهويتها يؤكد منهج الرجل في بناء وطن مستقل متقدم متسق مع هويته, وترابط أشد الترابط مع أمته, لقد كانت تجربة مصطفي كامل في مصر أكثر تكاملا من تجربة غاندي في الهند.
لقد ودع بطل مصر دنيانا عن أربعة وثلاثين عاما, صنع في عمره القصير ما يعجز عن صنعه ثلة من الزعماء العظام في أعمار مديدة, واجه طغيان الاحتلال وأسقط طاغيته كرومر, وواجه تسلط السلطة وخضوعها للاحتلال وفصل عري الارتباط بها ليكون حرا في خطته الوطنية, واستمر الحزب الوطني من بعده في أداء رسالته تحت زعامة محمد فريد, ثم تسلم الوفد الراية الوطنية خلال ثلاثين عاما شهدت مصر فيها تجربة دستورية ونيابية, ونهضة اقتصادية وفكرية, واستكملت الحركة الوطنية كفاح مصطفي كامل ضد القصر والاحتلال.
حق لنا ألا تشغلنا الأحداث الجارية سواء سياسية أو رياضية عن الاحتفال اللائق بالذكري المئوية لهذا البطل, ولابد أن تشمل تلك الاحتفالية مصر بأكملها بأطيافها السياسية والاجتماعية, وعلي امتداد رقعتها السكانية, احتفالا بذكراه وتأكيدا بأن مصر لن تنساه.