الخروج من سمرقند
إنها لقصة أغرب من الخيال قد تبدو لقارئها أنها من نسج خيال كاتبها… ولكنها مذكورة في كتب التاريخ وواقعية وتمثل سماحة الإسلام وعدالته…
كانت الشمس تريق أشعتها الصفراء الحارقة فوق الوهاد والسهول والجبال…، وهناك من بعيد لاحت أطياف قادمة من قلب الصحراء الملتهبة، وقد ألقت عليهم الشمس من ظلالها المشتعلة، فبدت وكأنها سهام تنقذف من باطن الأرض إلى ظاهرها ..
واقتربت الأطياف رويداً رويداً…، وبدت معالمها وتوضّحت…
إنها لعشرة من الأشخاص، يغذّون السير على إبلهم بهمة ونشاط…، لا يعيقهم حرّ الشمس، التي بلغت أوجها في هذا الشهر الصيفي "تموز"، ولا يعرقل مسيرتهم تعب أو إعياء أو نصب…، رغم بعد الشقّة من سمرقند بلادهم إلى دمشق من بلاد الشام…
إنهم على ما يبدو يسابقون الخطا، ويعدون الليالي والأيام للوصول إلى دمشق…
ذلك أنهم يطمحون للقاء خليفة المسلمين، "عمر بن عبد العزيز"…، ليعرضوا عليه شكواهم، التي غصّت بها حلوقهم منذ ثماني سنوات …
وتنهّد "غوزك" رئيس الوفد تنهيدة حارقة، وهو يتذكر اليوم الذي استسلم فيه أهل سمرقند أمام المسلمين، بعد حصار طويل، أنهك أهلها، فلم يجدوا خيراً من أن يمضوا عقد صلح مع قائد المسلمين، "قتيبة بن مسلم الباهلي"، على أن يترك ملك سمرقند حكمها للمسلمين، ويرحل إلى بلد أخرى… وأن يدفعوا للمسلمين ضريبة سنوية تسمى بالجزية، يدفعها كل ذكر بالغ عاقل من أهل سمرقند، الأغنياء منهم أربعة دنانير، والمتوسطو الحال دينارين، والفقراء المكتسبون دينارًا واحداً…، ذلك مقابل بقائهم على المجوسية دينهم الذي شبّوا عليه، ومقابل حماية المسلمين لهم أيضاً ضد أي خطر خارجي يواجههم، ويهدّد أمنهم وسلامتهم…
وغمغم "غوزك" بأسى:
أنا لا يهمّني إن كانوا رحماء أو غير رحماء …، فالحرية شيء ثمين…ثمين جداً، لا يعادلها شيء آخر..
ولاحت بذاكرة "غوزك" ذكريات وصور جميلة، عكّرت عليه أحلامه النشوانة بالحرية… نعم…، تذكر جيراناً وأصهاراً له مسلمين، عاش معهم في الثماني السنوات، التي مضت أحلى ليالي العمر، ربما لم يشعر بهذه السعادة، وبهذه العاطفة الجياشة، وبتلك العلاقة المتينة من قبل في علاقته مع أقرب المقربين له من بني جنسه ودينه…
ولكن …، مهما فعلوا، فهم غرباء عنا، غرباء في دينهم، وفي عرقهم، وفي نسبهم…، ولن نسمح لغريب أن يحكمنا، مهما كان أمره، وأيّاً بلغت عدالته.
هكذا كلّم "غوزك" نفسه، وقد تألّق وجهه بشراً، عندما رأى مشارف دمشق تلوح من بعيد…
وطارت روحه تسبقه إلى دار الخلافة…، حيث يقيم الخليفة العادل "عمر ابن عبد العزيز"، الذي وصلت أخبار عدله ورأفته وتواضعه إلى سمرقند…وأخذ يتخيل ذلك الخليفة، الذي سمعوا عنه الكثير الكثير…
وردّد "غوزك" في نفسه:
وأخيراً…، وبعد ثماني سنوات من الانتظار سيأتي الفرج، لا ريب أننا سنجد في حمى الخليفة نصراً وعوناً…
وطافت بمخيلته قصة رويت له عن ذاك الخليفة مع واليه على الكوفة، "زيد ابن عبد الرحمن"، حين كتب إلى الخليفة، يذكر إليه أنه قد اجتمعت عنده أموال عظيمة تفوق حاجة المسلمين في الكوفة…، فكتب إليه "عمر" قائلاً: "قوِّ أهل الذمة(1) وأغنهم".
وومضت عينا "غوزك"، وشعر باقتراب النصر، وهو يتذكر أيضاً ما يروى له عن وصاية "عمر بن عبد العزيز" لولاته جميعهم بأهل الذمة من مجوس ويهود ومسيحيين خيراً…
وأمام هذه الذكريات السريعة الجميلة ، كان "غوزك" يشعر براية الحرية البيضاء، تقترب أكثر وأكثر، لتعيد إليه حماسه في السعي لتحرير بلاده الحبيبة…
ولم يقطع على "غوزك" أحلامه السعيدة هذه، سوى صوت صاحبه يصيح بفرح، وهو يشير بيده إلى الأفق البعيد:
ها هي دمشق يا رفاق، انظروا إليها، كم تبدو جميلة رائعة…!!
لم يسمع "غوزك" صيحات رفاقه ولا تعليقاتهم…، بل كان مأخوذاً بمنظر المآذن الخضراء العالية تعانق قبة السماء …، وبيوت دمشق وشوارعها، وهي تحيط بها في سياج دائري، وقد صبغتها شمس الغروب بحمرة رائعة، فبدت وكأنها ورود حمراء، تزيّن حديقة غنّاء…
وفجأة شعر"غوزك" بشيء من القلق يسيطر عليه…
وبدأت الأفكار المتضاربة تغزو عقله، فتضيّع عليه فرحة الوصول…، وتوالت الأسئلة على ذهنه المكدود…
ترى هل سيلقى وفد سمرقند من الخليفة أذناً صاغية؟؟
وهل سيحكم الخليفة بخروج المسلمين من سمرقند…؟؟
وعلى فرض أن الخليفة سيحكم لهم بخروج المسلمين من سمرقند، هل سيطيع جيش المسلمين وتجار المسلمين خليفتهم في هذا، فيخرجون من سمرقند بعد أن عانوا ما عانوا في فتحها، وبعد أن أمضوا فيها ثماني سنوات، وصار لهم فيها بيوت وزوجات وأولاد، وتجارات وأملاك…؟؟
وعلى فرض أنهم أطاعوا خليفتهم، وخرجوا من سمرقند، هل سيكون في هذا الخروج نصر حقيقي لأهل سمرقند…، أم أن خروجهم سيفسد على السمرقنديين بعض ما ألفوه خلال ثماني سنوات من العشرة الحسنة لهؤلاء المسلمين، الذين لم يروا منهم إلا كلّ ما يسّر ويفيد…؟؟
أسئلة كثيرة…، لم يجد "غوزك" لها جواباً…
وأغمض "غوزك" عينيه، ويداه ممسكتان بخطام ناقته بشدة، وهما ترتجفان، تحت ثقل هذه الأفكار المتلاطمة، التي أفسدت عليه متعة الحلم بالحرية…
وشعر بتلك الراية البيضاء، التي كانت ترفرف قبل قليل أمام عينييه ناصعة خفاقة، تغوص الساعة في جبال من السحب الداكنة، لتترك وراءها هالة من السراب والخيال…
وفتح "غوزك" عينيه، واستدار صوب أصدقائه، يريد أن يخبرهم بمشاعره وقلقه، ولكن نظرة واحدة في وجوه أصدقائه، وهي تطفح بالبشر والأمل،جعلته يعدل عما همّ به…، وهو يرجو في قرارة نفسه، ألا تجد هذه الأفكار السوداوية لها على أرض الواقع مكاناً…
وحدّق مرة أخرى في مآذن دمشق و مبانيها، وقد أخذت معالمها تتضح رويداً رويداً…، وتصوّر نفسه في دار الخلافة، أمام الخليفة العادل "عمر بن عبد العزيز"…، يتكلم بلسان أهل سمرقند قائلاً:
أيها الخليفة، إن قائد الفتوحات في بلاد ما وراء النهر، "قتيبة بن مسلم الباهلي"، قد فتح سمرقند غدراً، والغدر محرم في دينكم حسبما أعلم…، ولذلك فإن أهل سمرقند يطالبون بخروج الجيش الإسلامي من سمرقند، وإعادة حكمها للسمرقنديين…
وتصور الخليفة يسأله:
وكيف فتحها غدراً ؟
لقد كان بينه وبين أهل الصّغد سكان سمرقند معاهدة وصلحاً، ولكن قتيبة لم يرعَ لهذا الصلح حقاً…، حين فاجأنا بغزو سمرقند، وحاصرنا حصاراً شديداً، حتى نزلنا عند حكمه، فدفعنا الجزية، وتولى المسلمون حكم ديارنا …
وقبل أن يتصور "غوزك" ردة فعل الخليفة، تناهى إلى سمعه من بعيد صدى صوت "الله الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله"، ينطلق من مآذن دمشق، يعلن بدء وقت صلاة المغرب…
وأحس "غوزك" بالضيق، عندما تذكر أنه ربما لن يسمع هذا الأذان الذي طالما ارتاحت له نفسه، وألفه قلبه، مرة أخرى يتردد في سماء سمرقند…، فيما إذا وافق حكم الخليفة ما تصبو إليه نفسه ونفوس رفاقه في تحرير سمرقند…
وهزّ "غوزك" رأسه بشدة، وكأنه يطرد هذه الأفكار، التي يعتبرها وساوس شيطانية، عن عقله الحائر المضطرب…
واقترب وفد سمرقند من الباب الشرقي لدمشق، وارتفع صوت أحدهم، وهو يقول:
ها قد وصلنا دمشق، وأظن أن دار الخلافة لم تعد بعيدة عنا…
أجابه آخر:
أقترح أن نبدأ بالبحث عن مكان نأوي إليه بعد كل هذا التعب، قبل أن نفكر بدار الخلافة والخليفة.
وهتف آخر:
هذا صحيح …فنحن بأمسّ الحاجة إلى الراحة والطعام والاستحمام، بعد أيام من المسير المتواصل…، ويمكننا أن نقابل الخليفة غداً في الصباح الباكر…
وتعالت همهمة التسعة الباقين بالموافقة على هذا الاقتراح …
كان "غوزك" يتململ في فراشه طوال الليل…، بعد أن خاصم الكرى جفنيه…، كان يشعر بتوتر شديد عجيب، لم يشعر مثله قط قبل اليوم…
وأنّى له أن لا يصيبه التوتر ، والقضية مصيرية حسب رأيه ورأي أهل بلده…، وهو ممثل القوم أمام الخليفة، الذي سيتولى عرض هذه القضية، وبناء على عرضه سيكون ردّ الخليفة…!!
ترى هل سيستطيع أن يقنع الخليفة بوجهة نظر السمرقنديين؟؟
وهل سيلقي الخليفة بالتحيّز والتعصّب لبني قومه وجنسه جانباً، وينصفهم في حكمه؟؟
أسئلة كثيرة كانت تجول في ذهنه المشوّش …، كانت تزيده اضطراباً على اضطراب، وتوتراً على توتر…
ولم ينقذه إلا انبلاج الصباح، وشدّ الرحال للقاء الخليفة في دار الخلافة…
وتقدم "غوزك" إلى الخليفة بخطوات متردّدة ، وقلب واجف…، ولكن نظرات الخليفة الوادعة، وابتسامته العذبة الرقراقة، جعلته يشعر بشيء من الطمأنينة والسكينة…
وأخذ يشرح للخليفة شكوى أهل سمرقند، تلك الشكوى التي لطالما رددها أثناء طريقه من سمرقند إلى دمشق، حتى بات يحفظ حروفها عن ظهر قلب…
وبعد أن انتهى "غوزك" من رفع شكوى أهل سمرقند إلى الخليفة، ران على الجميع صمت مطبق..، بدده صوت صادر من أعماق الحق والعدل…، يأمر بالدواة والقرطاس… إنه صوت الخليفة "عمر بن عبد العزيز"، وأمسك الخليفة العادل بالقلم، وخط إلى عامله في سمرقند:
إلى "سليمان بن أبي السري":
إن أهل سمرقند قد شكوا إليّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من "قتيبة" عليهم، حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإذا قضى لهم، فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم "قتيبة"…
وأمسك "غوزك" كتاب الخليفة يقرؤه على عجل…، وقد عقدت الدهشة لسانه…، ذلك أن ما كتبه الخليفة في هذه الأسطر القليلة، فاق في عدالته ووضوحه كل ما كان "غوزك" ورفاقه يتصورون أن يصلوا إليه من حلول وتسويات…
ونظر "غوزك" إلى رفاقه بعينين دامعتين، ولم يفهم رفاقه معنى هذه النظرات والدموع، أهي دموع فرح أم دموع حزن، إلا عندما انطلق لسان "غوزك" بعد فترة من الصمت الثقيل بالشكر والثناء لخليفة المسلمين…
وخرج الجميع من مجلس الخليفة فرحين، يتبادلون التهاني، ويحلمون بالحرية، التي باتت وشيكة قريبة التحقق…..
وعادوا إلى سمرقند على جناح السرعة، وليس لهم من حديث في طريقهم، إلا ما رأوه فأدهشهم، من عدالة وتواضع ورأفة، لم يروها من قبل على أحد من حكامهم، أو يسمعوا عنها…
ذلك بأنه لم يكن ليخطر على بال أي منهم، مهما جنح به الخيال، أن يكون لشكواهم هذه وقعها الشديد والسريع على الخليفة…، الذي لم يتلكأ ولم يتباطأ في سبيل إحقاق الحق…، ولم تكن مجوسيتهم وعبادتهم النار لتؤثر في حكم الخليفة، الذي لم يكن له فيما يحكم إلا سائق العدل وميزانه..
وأخيراً، وصل الوفد إلى سمرقند، ليزفّوا إلى أهلها حكم الخليفة العادل…،.
وانتظر الناس… هناك في سمرقند… ، يوم المحاكمة بفارغ الصبر…
وفي قاعة المحكمة المتواضعة…، جلس القاضي "جُميع بن حاضر الناجيّ"، وحضر أهل سمرقند إلى المحكمة أرتالاً، ليشهدوا محاكمة ما شهد التاريخ، ولربما لن يشهد مثلها…
وبدأت المحاكمة بسؤال القاضي للمدّعين عن دعواهم…
وجاء الجواب:
لقد غدر بنا قتيبة، حين فاجأنا بغزو سمرقند، بعد أن كان بيننا وبينه عقد صلح ومعاهدة…
ثم استدعى القاضي الشهود من السمرقنديين والمسلمين، الذين حضروا فتح سمرقند، واستمع لشهادتهم…
وجاء الرد حاسماً جازماً:
إن قتيبة، قد فعل هذا حقاً، لم يرعَ لأهل سمرقند العهد الذي أمضاه لهم…
ووسط استغراب القاضي ودهشته، اعترض أحد الشهود من المسلمين قائلاً:
هذا صحيح يا حضرة القاضي، ولكن لـ"قتيبة" عذراً في هذا، إن سمحت لي أدليت به…
وهزّ القاضي رأسه، وهو يقول متلهفاً:
نعم.. هات ما عندك…
إن أهل الصغد يا مولاي، لم يرضوا عن هذا الصلح الذي عقده ملكهم "طرخون" مع "قتيبة"…، بل تكالبوا عليه، وثاروا في وجهه، قائلين له:"إنك قد رضيت بالذلّ واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير، لا حاجة لنا بك." ثم نحّوه جانباً، ونصبوا عليهم ملكاً آخر بدلاً عنه…، الأمر الذي عدّه "قتيبة" نقضاً ضمنياً من أهل سمرقند للصلح الذي عقده مع ملكهم "طرخون"، ووجد في عملهم هذا مسوّغاً له لفتح سمرقند، وضمها إلى ملك المسلمين و حكمهم…
أطرق القاضي رأسه برهة من الزمن، يفكر في مقولة ذلك الشاهد…، وشعر برغبة جامحة تجذبه إلى اعتبار ما قاله الشاهد مبرراً سائغاً لـ"قتيبة" في فتح سمرقند…، ورفع رأسه يريد إصدار حكمه في إبقاء كل شيء كما هو…، ولكن شيئاً ما داخله كان يمنعه من ذلك، إنه ضميره اليقظان، الممتلئ بمخافة الله ومراقبته…، ذلك أن هناك ثغرة هامة لا بدّ له أن يتعرض لها في محاكمته تلك، لتكون محاكمة عادلة ، تلك الثغرة، التي ربما تكلّف المسلمين الخروج من سمرقند…
وبعد دقائق من التردد، قرر القاضي "جُميع" أن ينحّي ميوله ورغباته جانباً، ويسدّ تلك الثغرة، فتوجّه إلى الشهود يسألهم :
ألم يُعلم "قتيبة" أهل سمرقند، بأنه يعتبر ما فعلوه مع ملكهم هذا نبذاً للعهد الذي بينه و بينهم، قبل أن يحاصرهم ويبدأ بقتالهم…
وأجاب السمرقنديون:
لا…لم يفعل هذا أبداً…،بل لقد فوجئنا به يغزونا في عقر دارنا، بعد أن أمِنّا جانبه، واستنمنا لوعوده…
نظر القاضي إلى شهود المسلمين، وسألهم عن قولهم في هذا، فلم يكن منهم إلا أن سكتوا، والامتعاض بادٍ على وجوههم…، بينما أجاب أحدهم بصوت مرتجف حزين:
نعم يا حضرة القاضي…، لقد حصل هذا كما ذكروا تماماً…
ووسط هذا الجو المتوتر المشحون، صدر حكم القاضي، الذي لم يحتج أمام وضوح هذه البينات والدلائل إلا إلى دقائق من التفكير والتريث والانتظار…
بما أن "قتيبة" قد بدأ بقتال أهل الصغد، قبل أن يعلمهم بفسخ عقد الصلح معهم، بسبب ما حصل بينهم وبين ملكهم "طرخون"…، فإنني أرى أن ما بني على فاسد فهو فاسد…
ولذلك فإن "على الجيش الإسلامي، الذي فتح سمرقند بقيادة "قتيبة"، أن يتأهب للخروج منها فوراً…
كذلك يخرج منها المسلمون الذين دخلوها بعد الفتح إلى معسكر خارج سمرقند، ليعود جيش المسلمين إلى سمرقند من جديد، إما صلحاً و إما عنوة (أي بعد حرب جديدة)..".
ويخرج السمرقنديون من قاعة المحكمة، والدينا لا تسعهم من الفرحة…
بينما خرج منها المسلمون مطأطئي الرؤوس، وقد نفرت الدموع من عيون بعضهم…، وتملكهم حزن شديد….
ويرسل القاضي بحكمه إلى والي سمرقند "سليمان بن السري"، ليبدأ بتنفيذه…
ويمسك الوالي "سليمان" بحكم القاضي يقرؤه، وقد وجف فؤاده، وتصنَّع جاهداً ليمنع دموعاً، كادت تنهمر على خديه…
فهو يدرك جيداً خطورة هذا الحكم وصعوبته بالنسبة للمسلمين….
إن معنى هذا تكبيد جيش المسلمين مشقة معركة جديدة، من المحتمل جداً أن تكون خاسرة، فضلاً عما في هذا من إزهاق للأرواح و إضاعة للأموال….
كما أن من نتائجه أيضاً خسارة كبيرة لتجار المسلمين، الذين استوطنوا سمرقند لمدة ثمانية أعوام…، ووضعوا في عماراتها وأسواقها ما يملكونه من رؤوس أموال…
لذلك كله، لم يجد والي سمرقند بداً من استشارة الخليفة "عمر بن عبد العزيز" في تنفيذ هذا الحكم…
فأرسل إليه مع البريد رسالة يخطره فيها بالوضع الحرج، الذي قد يترتب على المسلمين، فيما إذا نفّذ حكم القضاء…، وكله أمل أن يتراجع الخليفة عن قراره، فيكتفي باسترضاء المشتكين من أهل سمرقند، مجنّباً المسلمين ما قد يعتريهم من خسائر و صعوبات و أخطار…
وريثما يأتي الجواب…، عاش السمرقنديون و المسلمون أوقاتاً حرجة من القلق والانتظار، وسرت الهمهمات والتهامسات والتنبؤات، و لربما الأراجيف والشائعات… هنا وهناك…
وأخيراً جاء بريد الخليفة من دمشق الشام إلى سمرقند، يحمل رسالته المتضمنة لفصل المقال…
ويقرأ الوالي رسالة الخليفة، وينضح جبينه بالعرق، وتزيغ نظراته، وهو يقرأ السطور، وتتداخل الكلمات وتختلط…
ويغصّ صوته بالدمع، وهو يطوي كتاب الخليفة قائلاً:
سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين…
وما يلبث أن يستدعي قائد جنده، يوعز إليه بتعليماته في إخلاء سمرقند من جيش المسلمين، وكل من فيها من المسلمين…
وبينما كان الجيش الإسلامي يعدّ عدّته للرحيل، ويجمع أمتعته وأسلحته…
وبينما كان تجار المسلمين يحزمون أغراضهم، ويعلنون بيع أملاكهم، ويودّعون أهل سمرقند، الذين جمعتهم بهم ثماني سنوات، ائتلفت فيها القلوب، وتمازجت فيها الأرواح…
كان النفر العشرة، وفد سمرقند إلى الخليفة في دمشق قبل أشهر،وكثير من أهل سمرقند، يقفون من بعيد، يرقبون هذا المشهد الباهر، وهم يغالبون دموعاً ترقرقت في عيونهم…
أجل…، فقد كان منظراً مؤثّراً…، الزوج المسلم يعانق زوجته السمرقندية وأولاده منها…،وقد وقفوا جميعاً يراقبونه…، وهو يغيب في الأفق بعيداً عن ناظريهم، ولربما لغير رجعة…، ويلوّحون بأيديهم مودعين ذاك الزوج الصالح والأب العطوف…، وأصوات بكائهم تتعالى بحرقة و لوعة…
والجار المسلم يودع جيرانه وأصدقاءه من أهل سمرقند، ثم ينتزع نفسه من بين أحضانهم انتزاعاً، وكأنه يقتلع شجرة كبيرة مسنّة من جذورها…
والتاجر المسلم يقضي ديونه، ويصفّي حساباته مع أهل سمرقند، بأمانة وصدق لم يرها أهل سمرقند من قبل، في أيّ من الغرباء الذين استوطنوا بلدهم يوماً من الأيام…
وأحسّ "غوزك" أمام هذه الصور الحية من التفاعل والمحبة والود والتفاهم بسهام تنطلق نحو قلبه، فتصيبه في الصميم…
وشعر بالندم تمتد أصابعه إلى فؤاده، الذي كره استيطان المسلمين في سمرقند، رغم أنه كان يشعر تجاههم بالاحترام والإكبار…، وإلى عقله الذي دبّر ما دبّره من خروج المسلمين من سمرقند…
وأغمض "غوزك" عينيه يسترجع صورة راية الحرية البيضاء، التي كانت تعشش في مخيلته، والتي كان يعيش على أمل أن يراها متحققة يوماً ما…ولكن…،ما باله يشعر بها واهية واهنة ضعيفة هذا اليوم، مع أن النصر الذي يحلم به قد تحقق، والحرية التي عاش من أجلها قد أقبلت…؟؟
ولماذا لا يشعر هو و أهل سمرقند بطعم الحرية ولذّتها، كما كانوا يحلمون بها قبل رحيل المسلمين…؟؟
وفتح "غوزك" عينيه تارة أخرى…، ونظر إلى أصدقائه التسعة وغيرهم من السمرقنديين …، وشعر بالندم ينبع من عيونهم الدامعة….
وأدرك لتوّه أن الحرية تعني السعادة و الأمان و النظام…، تعني أن يملك الفرد حقوقه كاملة من غير بخس ولا نقصان…، الأمر الذي لم يكن متوفراً بشكله الأفضل قبل أن يفد المسلمون إلى سمرقند، و يحكموها…، ولربما لن يكون متاحاً أيضاً بعد رحيلهم…
إي والله…، فلقد كان حكم المسلمين لسمرقند نمطاً فريداً لا ثاني له… يتّسم بالعدالة و المحبة والإخاء…
ونظر "غوزك" في حشود السمرقنديين المحتشدة، ثم ردّد بصوت مرتجف، وهو ينظر إلى فلول المسلمين الراحلة:
هل لكم يا أهل سمرقند في التراجع عما عزمنا عليه…؟؟
وجاءته من الخلف أصوات كثيرة تردد في وقت واحد، وكأنها صوت واحد يزمجر كالرعد:
أجل…أجل…
وهمس أحدهم بصوت حزين:
يبدو أننا قد أخطأنا الحساب…!!
فأجابه آخر:
والتراجع عن الخطأ خير من الندم عليه…..
ولوى "غوزك" و السمرقنديون أعنّة أفراسهم، وتوجهوا مسرعين إلى والي سمرقند، علّهم يدركونه قبل رحيله…
ووقف وفد سمرقند وأهلها…، أمام الوالي الذي كان يشرف بنفسه على خروج المسلمين من سمرقند…وكم كانت دهشة الوالي، حينما سمع "غوزك" ووراءه حشد كبير، يقول:
- باسم السمرقنديين أخاطبكم : لا ترحلوا…. لا ترحلوا….
وحدّق فيهم والي سمرقند غير مصدق ما يسمع…
نفس الوفد الذي جاءه قبل أشهر، برسالة من الخليفة، يطالبون فيها بخروج المسلمين من سمرقند…، يأتيه اليوم ليقول له وللمسلمين، لا ترحلوا…..
وأجال النظر فيهم، متفرّساً في وجوههم، صدق هذه الكلمة من كذبها…
الله أكبر…، دموع ندم…، وابتسامة رضى….
ولم تطل حيرة الوالي…، فها هو "غوزك" يفصح له عما عزموا عليه قائلاً:
لا ترحلوا…، فإنا قد رضينا بكم…، وقد خالطناكم وأقمنا معكم…، وأمنّاكم وأمنتمونا… ولا حاجة بنا لأن نجدّد حرباً…، فإنا والله قد وجدنا السعادة في رحابكم…
وعاد جيش المسلمين إلى سمرقند، وهم يرددون:
الله أكبر…. الله أكبر…. الله أكبر…. الله أكبر..
ولم يتمالك كثير من أهل سمرقند أنفسهم…، فانخرطوا مع المسلمين يصدحون بأعلى صوتهم:الله أكبر… الله أكبر…، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
حقاً…، لقد كان هذا الحكم العادل، الذي لم يكن ليخطر ببال أي من المتظلمين أن يصل إليه، سبباً في إسلام الكثير من أبناء سمرقند، الذين أذهلهم ما شهدوه من حكم القاضي، الذي لم ينتصر لأبناء جلدته عن عصبية عمياء…، ولم يكن له فيما حكم إلا ميزان العدل وكفّته….
كما أدهشهم ما رأوه من تنفيذ الخليفة لهذا الحكم العادل…، ليبرهن بذلك، أن الخلافة ليست سلطاناً و جاهاً، بمقدار ما هي حراسة للحق وسهر على تنفيذه، وانتصار للمظلوم من الظالم، أياً كانت صفته، ومهما بلغت قوته……