قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك
والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟! عفوًا يا سلطان
العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!!
لم يخل عصر من عصور الإسلام من العلماء الدعاةالذين يأخذون بيد الأمة في ظلام الليل البهيم، وعند اشتداد الخطب واضطرابالأمور، يقومون بواجبهم المقدس في أداء الأمانة ونشر العلم، وتقويمالاعوجاج، ومواجهة الظلم، وتصويب الخطأ، وقام العلماء الأفذاذ بهذه السنةالحميدة؛ استشعارًا للمسئولية، وتقديرًا للأمانة، وإدراكًا لعظم دورهم باعتبارهم طليعة الأمة، ولسان حالها، وروادها.. والرائد لا يكذب أهله.
والعز بن عبد السلام، واحد من هؤلاء الروادالصادقين، لم تشغلهم مؤلفاتهم ووظائفهم عن الجهر بكلمة الحق، وتبصيرالناس، ومحاربة البدع، ونصح الحكام، وخوض ميادين الجهاد، حتى طغى هذاالنشاط على جهدهم العلمي وهم المبرزون في علومه، واقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا بمؤلفاتهم، وحمل التاريخ سيرتهم العطرة تسوق إلى الناس جلال الحق وعظمةالموقف، وابتغاء رضى الله، دون نظر إلى سخط حاكم أو تملق محكوم، فهو ينطقبما يعتقد أنه الصواب والحق، غير ملتفت إلى غضب هذا أو رضى ذاك.
المولد والنشأة
في دمشق كان مولد عبد العزيز بن عبد السلام المعروف بالعز سنة (577 هـ = 1181م)، وبها نشأ وتلقى تعليمه، وكانت دمشقمنذ العصر الأموي حاضرة من حواضر العلم تزخر بالعلماء وتموج فيها الحركةالعلمية، ويقصدها العلماء من الشرق والغرب.
ولم يطلب العز العلم صغيرًا مثل أقرانه،وإنما ابتدأ العلم في سن متأخرة، وانتظم في التزام حلقات الدرس وأكب علىالعلم بشغف ونهم وهمة عالية، فحصل في سنوات قليلة ما يعجز أقرانه عن تحصيله في سنوات طويلة، ورزقه الله الفهم العميق والذكاء الخارق فأعانهذلك على إتقان الفقه والأصول، ودراسة التفسير وعلوم القرآن وتلقي الحديث وعلومه، وتحصيل اللغة والأدب والنحو والبلاغة.
وأشهر شيوخ العز ما ذكرهم السبكي في طبقات الشافعية بقوله: تفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول علىالشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر.
الوظائف
اتجه العز إلى التدريس وإلقاء الدروس في مساجد دمشق وفي بيته، وفي المدارس التي كانت تتعهدها الدولة، مثل: المدرسةالشبلية، والمدرسة الغزالية بدمشق، وكان في الشيخ حب للدعابة وميل إلىإيراد الملح والنوادر يلطف بها درسه وينشّط تلاميذه الذين أعجبوا بطريقته،وبعلمه السيال وأفكاره المتدفقة وأسلوبه البارع، وسرعان ما طار صيت العز،وطبقت شهرته الآفاق، وقصده الطلبة من كل مكان، ولما هاجر إلى مصر عملبالمدرسة الصالحية، وانصرف إلى إلقاء الدروس في المساجد، والتف الناس حولهيجدون فيه عالمًا شجاعًا ومدرسًا بارعًا.
ولم يكن الشيخ ليسكت عن خطأ أو يسمح بتجاوزفي حق الأمة، أو تفريط في ثوابتها
صدامالعزّ مع الملك الصالح إسماعيل:
تحالف الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق مع الصليبيين ضد أبن أخيه نجم الدين أيوب حاكم مصر، وسّلم للصليبيين مدينة صيدا وقلعة الشقيف ومدينة صفد، وسمح لهم بشراء الأسلحة من دمشق. فأفتى العز بحرمة هذا البيع فقال: «يحرم عليكم مبايعتهم لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين».فأمر الصالح باعتقاله وبعد فترة أفرج عنه فذهب إلى بيت المقدس ووافق ذلك وصولالصالح إسماعيل مع عساكره وحلفائه من الصليبيين إلى بيت المقدس في طريقهم إلى مصر.فلما علم بالعزّ أرسل إليه أحد خواصه يطلب منه أن يصالحه. فلما اجتمع الرسول بالشيخشرع في مسايسته وملاينته ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك و ما كنت عليه و زيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير. فقال له العزّ: والله يا مسكين! ماأرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده. يا قوم! أنتم في وادٍ، وأنا في واد. والحمدلله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فقال: إذن فقد أمر الملك باعتقالك. فقال: افعلواما بدالكم، فاعتقله في خيمة بجانب خيمة الملك. فبقي العزّ رهن الاعتقال راضياًبقضاء الله صابراً على ابتلائه، محتسباً للأجر شاغلاً وقته في قراءة القرآن الكريم وذكر الله. وكان الملك يسمعه، فقال يوماً للفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأالقرآن؟ قالوا نعم. قال: هذا أكبر قسيس المسلمين. وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليميلكم بعض حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلىالقدس. وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقالت له ملوك الفرنج: (لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتهما).
وبقي العز رهن الاعتقال حتى جاءت الجيوش المصرية والتقت مع عساكر الشام فمالوا جميعاً على عساكر الفرنج فهزموهم وأسروا منهمعدداً كبيراًَ. ونجىّ الله العز من الاعتقال فاتجه إلى مصر فوصلها سنة 639هـ فرحببه الملك الصالح نجم الدين فولاّه الخطابة والقضاء فبدأ العز نشاطه في مصر بإقامةالسنة ومحاربة البدعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم. وهكذا امتحنالعزّ فصبر واحتسب ثم نصره الله بظهور الحق وذهاب الباطل وأرضاهم عنه لأن العزّ قدأسخطهم لرضا الله. ومن أسخط الناس لرضا الله رضي عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله لرضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
بيعه لأمراء المماليك:
حينما تولّى العز القضاء بمصر لاحظ فيه أمراً مخالفاً للشرع، وهو أن المماليك الذين اشتراهم الملك نجم الدين ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وفي تصريف أمور الدولة، يتصرفون بالبيع والشراء، وتصرفهم هذا باطل شرعاً لأنالمملوك لا ينفذ تصرفه. فأخذ العز لايمضي لهم بيعاً ولاشراءً. وقد ضايقهم ذلك وعطّلمصالحهم، فراجعوه في ذلك فقال: لا بد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتباعوا فيه، ويرد ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي فينفذ تصرفكم.فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض.ورفعوا الأمر للملك فغضب وقال: هذا ليس من اختصاص الشيخ ولا شأن له به. فلما علمالعز بذلك عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن مصر لأنه لا يطبّق فيها شرع الله.فحمل أمتعته على حمار وأهله على حمار واتجه إلى الشام فتبعه العلماء والصلحاءوالتجار والنساء والصبيان، فصار الأمر أشبه بمظاهرة ضد الحكومة. وجاء من همس في أذنالملك الصالح نجم الدين أيوب قائلاً: متى رحل الشيخ ذهب ملكك. فخرج الملك مسرعاًولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الله. وحاول نائبالسلطنة وهو الرجل الثاني في الدولة أن يترضى الشيخ لعله يتراجع عن رأيه، ولكن الشيخ أصرّ على تنفيذ حكم الشرع، فأزداد الأمراء غضباً واتفقوا على التخلص من الشيخ بالقتل.
فذهب إليه نائب السلطنة مع جماعة من الأمراء فطرق بابه، ففتح الباب ابنهعبداللطيف، فراعه منظر نائب السلطنة إذ رأى سيفه مسلولاً، والغضب يعلو وجهه والشرريتطاير من عينيه فدخل على والده وقال: انج بنفسك إنه القتل. فرد عليه الشيخ بقوله:هدئ نفسك يابني! فأبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله. ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزلعلى نائب السلطنة فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وارتعدت فرائصه وبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال يا سيدي ماذا ستفعل؟ قال: أنادي عليكمو أبيعكم.
قال : ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال من يقبضه؟قال: أنا فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير.
وهذا مالم يسمع به عن أحد قبله ولا بعده رحمه الله تعالىورضي عنه.
هذا الموقف العظيم قد خلّد ذكر العزّ، وأقام مناراً للحق، وأخضع الملك والأمراء المتكبرين على الشعب لحكم الله، وحقق المساواة بين الناس، حيث يقف الحاكم والمحكوم سوياً عند شرع الله. لا شك أن العزّ بتقواه وزهده وورعه صار له من السلطان والقوة والمهابة ما يستطيع به أن يغير المنكر بيده، ويجابه الملوك بقولالحق ولا يخشى في الله لومة لائم لذا نجد تلميذه ابن دقيق العيد قال عنه: (إنه أحدسلاطين العلماء) إنه نموذج رائع للعالم الصادق فهل من يتأسى!؟
وكانت هذه الوقعة سببا في إطلاق اسم بائع الملوك على الشيخ المهيب.
مع الظاهر بيبرس
وتكرر هذا الأمر منه عند بيعة الظاهر بيبرس حين استدعى الأمراء والعلماء لبيعته، وكان من بينهم الشيخ العز، الذيفاجأ الظاهر بيبرس والحاضرين بقوله: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوكالبندقدار -أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف- فما كان من الظاهربيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب الذيأعتقه، وهنا تقدَّم الشيخ فبايع بيبرس على الملك.
وكان الظاهر بيبرس على شدته وهيبته يعظمالشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاواه، ويعبرالسيوطي عن ذلك بقوله: وكان بمصر منقمعًا، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقرملكي إلا الآن.
مؤلفاته وجهوده العلمية
تعددت مساهمات العز بن عبد السلام فيالإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس والتأليف، وله في كل إسهام قدم راسخةويد بيضاء، وانتهت إليه في عصره رياسة الشافعية، وبلغت مؤلفاته ثلاثينمؤلفًا، وهي دليل نبوغ فذ وقدرة عالية على أن يجمع بين التأليف وأعمالهالأخرى التي تستنفد الجهد وتفنى الأعمار فيها، لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فاجتمع له من الفضل ما لم يجتمع إلا للأفذاذ النابغين من علماءالأمة.
وشملت مؤلفاته التفسير وعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى. ومن أشهر كتبه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، والغاية في اختصار النهاية في الفقهالشافعي، ومختصر صحيح مسلم، وبداية السول في تفضيل الرسول، والإشارة إلىالإيجاز في بعض أنواع المجاز، وتفسير القرآن العظيم، ومقاصد الصلاة،ومقاصد الصوم.
وفاته
طال العمر بالعز بن عبد السلام، فبلغ ثلاثةوثمانين عاما قضى معظمها في جهاد دائم بالكلمة الحرة، والقلم الشجاع،والرأي الثاقب، وحمل السلاح ضد الفرنج؛ للمحافظة على حقوق الأمة حتى لقيربه في 10 من جمادى الأولى 660 هـ = 9 من إبريل 1066م.
. رحمه اللهوجعل الفردوس الأعلى مثواه، ورزق المسلمين بعلماء أمثاله لا يخشون في الله لومة لائم يبيعون دنياهم من أجل أخراهم همهم رضاء الله ونفع المسلمين
منقول للأمانة